100% من مستقبلنا

في دولة الإمارات عند تصنيف المواطنين حسب أعمارهم نجد أن اﻷطفال من عمر 0-4 يشكلون الشريحة اﻷكبر من السكان.
وبغض النظر عن اتساع هذه الشريحة فإن أطفالنا اليوم ولو كانوا جزءا من النسبة الكلية للسكان فإنهم بالتأكيد ١٠٠% من نسبة السكان في المستقبل.
فإن تكلمنا من المنظور المالي وحسبناها بالدراهم والدولارات فسنجد أن اﻷبحاث التي درست العائد المادي من الاستثمار في تعليم كل مرحلة تعليمية وجدت أن أكبر عائد ينتج عن الاستثمار في مرحلة الطفولة المبكرة.  وأحد أبرز البحوث الداعمة للقضايا التي تنادي بالاهتمام بمرحلة الطفولة المبكرة هو البحث الذي قام به James Heckman، الحاصل على جائزة نوبل . قد يكون ما أثبته هذا البحث على عكس ما يظنه الكثير من أن العائد من الاستثمار في موظفي الشركات (مثلاً) سيعود بدخل أكبر. صحيح أن العائد من الاستثمار في الطفولة المبكرة لن يأتي سريعا مثل عائد الاستثمار في الموظفين.  ولكنه حين يأتي هذا العائد فإنه سيكون أضعاف ما سيعود به العائد السريع القادم من تدريب الموظفين.

وهذا الرسم البياني يشير إلى نتائج التي تثبتها دراسة Heckman

Heckman-curve1

صحيح أنهم “يهال” ولكنهم هم رأس المال الحقيقي وهم كل ما نملك لمستقبلنا.
بل كلما كان هذا “الياهل” أصغر عمرا، كلما كان التعامل معه أكثر حساسية.
ما يحدث في السنوات اﻷولى من عمر الإنسان وبالتحديد من قبل الولادة إلى عمر الثلاث سنوات يترك أثراً مدى الحياة على كل النواحي اﻷساسية في حياة الفرد مثل نجاحه الدراسي وحياته العائلية وعلاقاته مع الناس وصحته الجسمية والعقلية.
أسرع فترات نمو وتطور الدماغ تكون خلال الثلاث السنوات اﻷولى حين يتضاعف حجمه ويقوم بتكوين التفريعات والتشبيك للأعصاب المسؤولة عن كل المهمام الوظيفية المتعلقة بالدماغ. تأتي حساسية هذه الفترة في في أن هذا التكوين في الخلايا العصبية للدماغ سواء كان تكوينا صحيحا أو معتلا فإنه من الصعب تغييره في وقت لاحق من حياة اﻹنسان، لا نقول أنه مستحيل ولكنه لا يقارن بمرونة تداركه وتعديله في السنوات اﻷولى من حياة الطفل.

ch1-fg3-synapse-density-over-time

تستوقفني هذه الصورة كثيرا وقد غيرت من نظرتي للأطفال عند مشاهدتهم يلعبون أمامي. تعرض الصورة الخلايا العصبية في دماغ الطفل في فترات مختلفة من عمره خلال اﻷشهر اﻷولى.  عندما يولد الطفل تكون خلاياه العصبية غير متشابكة بكثرة ويظهر هذا واضحا في الصورة التوضيحية. في العام الأول من عمره تتضاعف الخلايا وتتضاعف تشابكاتها. وكلما زاد التشابك زادت المسارات التي ستنتقل خلالها الإشارات العصبية ذهابا وإيابا. بالطبع عندما يتم الطفل شهره الثالث يكون قد تضاعف أيضا التشابك في خلاياه العصبية.

الشاهد هنا هو أنني عندما أرى طفلا يتلمس الأرض أو الرمل أو أراه يتذوق طعما جديدا أو تقترب منه أمه وقد تعطرت برائحة لم يعتد عليها فإنني عندما أرى ذلك أتخيل دماغه الجميل وهو يبني تشعبات جديدة بل وأتخيل كيف أن هذه التشعبات ستظل تنقل المعلومات بسلاسة في ذهنه طوال حياته.
في موقف كهذا حين يستكشف طفل أمام ناظري العالم من حوله من خلال حواسه فإنني ابتعد عنه خوفا من أن أقطع عليه هذا النشاط التعليمي والتنموي المركز وأشغل نفسي في التفكير في كيفية تهيئة أنشطة ينخرط فيها في تجربة ممتعة مماثلة.
لهذا أقدس العمل مع الأطفال، فضلاً عن أن أستمتع به، لأنني أعلم أن كل ما أقوم به معهم، سيترك أثراً عليهم طوال حياتهم، وأن كل ما أقوم به معهم سيترك أثراً على مستقبلنا، لأنهم اليوم نسبة محدودة من سكان بلادنا، ولكنهم سيكونون ١٠٠٪ من سكانها في المستقبل.

تعليق واحد على

شاركني رأيك!